الأربعاء، 23 أبريل 2014



Tuesday, 1 September 2009


مائة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز


رائعة هي تلك الرواية و لا تستطيع إلا أن تحني رأسك إحتراماً لهذه القدرة العبقرية و المخيلة المذهلة التي إستطاعت أن ترسم لنا عالماً خيالياً بإسلوب كاسح و تقنية مميزة في السرد. و هي ليست برواية فحسب بل هي ملحمة إنسانية تروي لنا تاريخ الإنسان في امريكا اللاتينية و تسرد لنا حكاية قرية"ماكوندو" الخيالية التي استوحاها الكاتب من قرية "آركاتكا" مسقط رأسه محرراً القرية من وضعها الخاص كنقطة على الخريطة لتصبح حالة إنسانية فهي صورة للعالم و رمز لتاريخ البشرية. 9



انكب ماركيز على كتابة روايته الشهيرة هذه يوميا ولم يتوقف عن الكتابة لمدة 18 شهرًا متواصلة. كرس نفسه كليا للكتابة حتي أنه توقف عن العمل لإعالة أسرته واضطر لبيع كل ممتلكاته من أثاث وأجهزة منزلية، كما تراكمت عليه الديون. ماكوندو هي المدينة العالم التي أعاد ماركيز بناءها بكل ما يحمل في قلبه من ذكريات الطفولة وبيت النمل وحكايات الجدة والموتي الأحياء. تحدث ماركيز عن الحرب والعنف وضياع المبادئ وسط الثورات الدامية والخلافات الأيدلوجية التي كانت تفتك ببلاده. 9
يسجل ماركيز قصة حياة عائلة "بوينديا" في قرية ماكوندو على الساحل الكاريبي، بدءاً من قدوم الجد الأكبر "خوزيه أركاديو بوينديا" والجدة الكبرى "أورسولا" و "بيلار تيريزا" التي تقرأ مستقبل الناس من خلال ورق اللعب، ومجموعة متنوعة من المهاجرين. ثم تكوين مجتمع ماكوندو الغريب الذي يتسم كل شيء فيه بالعزلة النسبية. فكل فرد ومكان طبع على شخصيته سمات خاصة تجعل تفرده حالة مستعصية. 9
ثم يأتي إلى القرية الجديدة الغجر بألعابهم السحرية التي لا تنتهي، فتطبع على القرية وأهلها شكل آخر من أشكال الخرافة، ويأتي مع الغجر الشخصية الغريبة "ملكياديس" الذي جعل للرواية مذاقا خاصا، فمع قدومه إلى القرية الجديدة، وقد تحول اهتمام أهل القرية إلى البحث في أمور غريبة غير تقليدية : مثل البحث عن حجر الفلاسفة .. وتحويل التراب إلى ذهب .. البساط السحري الذي تركبه بثمن بسيط ليطوف بك بأرجاء البلدة .. أشباح الموتى التي تأتي بعد مرور سنوات طويلة على موتهم .. مرض الأرق الذي أصاب البلدة فجعل أهلها ينسون أسماء الأشياء. فكان عليهم أن يكتبوا على كل شيء اسمه وكيفية استخدامه حتى لا يتعرضوا لمواقف محرجة. ويموت ملكياديس وقد ترك وراءه كنزا غريبا بعض الشيء، وهو مجموعة من الأوراق التي تسجل بدقة تاريخ القرية وكل سكانها من لحظة وجودها وحتى لحظة فناء القرية وأهلها، ولكن هذه الأوراق لا تقرأ إلا بعد مرور مائة عام على كتابتها ! 9
ثم يتنوع نسل عائلة بوينديا إلى مجموعة من الأبناء والأحفاد الذين يحملون اسم "أركاديو" أو"أوريليانو". من يحملون الاسم الأول يمتلكون صفات جسدية خارقة للعادة وقدرة جنسية فائقة. والأحفاد الذين يحملون اسم أوريليانو يحملون معه صفات العزلة والتمرد المطلوبة لقائد. فـأوريليانو الأول هو زعيم حزب الأحرار، وقاد حرب طويلة الأجل على حزب المحافظين الحاكم جعلت من اسمه أيقونة ثورية تقشعر منها الأبدان، وخرج الأحفاد يحملون صفات الأسلاف، أما عن نساء العائلة فلهن جمال ألف حورية وغرابة فائقة في الأطوار، فلا بد لكل واحدة من عاشق متيم يرمي بنفسه تحت أرجلها ويطلبها للزواج. ولكنها ترفض بغرابة شديدة حتى يموت أو يتعقّد أو ينتحر من اللوعة والعشق. بل إن واحدة تدعى "ريميديوس" بلغت من جمالها وغرابة أطوارها أن اختطفتها السماء لتختصها لنفسها ! 9

ثم يأتي المستعمر الأجنبي إلى القرية الهادئة بصخبه وشركاته وكلابه وجنوده، وينشئ على الطرف الآخر من البلدة شركة الموز، والتي استغلها المستعمر ليستعبد أهل القرية وخيرات القرية بحماية من قوات الجيش الوطني وحزب المحافظين. حيث صاح العقيد الدموي المستبد الثائر أوريليانو بوينديا"إنظرو البلاء الذي جلبناه لأنفسنا لمجرد أننا دعونا أمريكياً لأكل الموز عندنا !!". لتأتي النكبة المستمدة من حادثة حقيقية حدثت في عام 1938 حيث انفجر العمال في ثورة على الشركة (شركة بوسطن المتحدة لإنتاج الفواكه) بسبب تعسف الإدارة والأجور المنخفضة والرعاية الصحية المعدودة وانتهت الثورة بإعدام ثلاثة آلاف عامل فيما عرف بمذبحة الموز سنة 1928. وتكتم الجميع على الخبر فتم نقل الموتى لدفنهم في مياه المحيط وظل الأمر يشبه الأسطورة المحلية والتي لا تعرف متى وجدت أو كيف حدثت، حتى أرّخها "ماركيز" في روايته. فأحداث الرواية الخيالية متقاطعة مع تاريخ كولومبيا و إنفصالها عن أسبانيا و إعلان إستقلالها و حربها الأهلية التي إندلعت في عام 1885 قبل أن تنتهي بتوقيع معاهدة نيرلانديا سنة 1902 بواسطة زعيم الثوار الكابتن رافائيل يريبي و الذي حارب جد الكاتب تحت إمرته. 9
ثم يأتي على القرية سنوات من الثراء الرهيب، حتى أن أحد الأحفاد كان يغطي جدار البيت بالأوراق النقدية، وموّل عدة مشروعات للسكك الحديدية والنقل البحري، وكان يقيم الولائم الهائلة كل يوم، ويقيم فيها سباقاً رهيباً على من يستطيع أن يأكل أكثر ويحشو معدته بكميات أكبر من الطعام الوفير، وتزوج من ملكة أندلسية هي أجمل مخلوقة على ظهر الكوكب، قبل أن تأتي سنوات الفقر مع طوفان من الأمطار استمر لسنوات وسنوات، وأخيرا عندما توقف كانت الحياة قد تغيرت تماما في قرية ماكوندو إلى أسوأ حال، ولكن الحياة تستمر على الرغم من هذا. 9



عالم غريب معقد صُوّر لنا بإسلوب سهل بسيط ولكنه في نفس الوقت سريع كاسح. تعابير خلابة جديدة وتعقيد في الأحداث لذيذ جذاب. تراث لاتيني استمد منه ماركيز الكثير من القصص والأساطير ليشحن بها كتاباته ما جعلنا نعيش في أعماق شخصياته الروائية و أبعادها الأنسانية عبر لغة سحرية ودقة فكرية مدركة لأبعاد النفس البشرية في مواقفها الحياتية. 9
نماذج بشرية كخوزيه اركاديو بوينديا الذي "لم يكن أبلهاً معتوهاً بل مكنه وضوح ذهنه و صفاؤه من أن يستشف الحقيقة الأبدية : الزمان يتعثر و يحفل بالحوادث و يمكن أن يتشطى فيدع في غرفة ما واحدة جزئياته السرمدية الخالدة". و زوجته أورسولا التي عاشت لمائة و عشرين سنة و كفاحها و صبرها و قدرتها على ضبط الأمور في عائلة متمردة مجنونة. و قائد المتمردين أركاديو و اخاه العقيد أريليانو بوينديا المنطوي على نفسه قبل أن تتفجر في روحه نزعات الإستبداد و التسلط و ريميديوس الطفلة الجميلة و أمارانتا العذراء و حبها للموسيقي الإيطالي الذي أحب أختها ريبيكا في الوقت نفسه. 9
فاز ماركيز بجائزة نوبل عام 1982 تكريماً له عن أدب "الواقعية السحرية" التي تميز بها الأدب اللاتيني الحديث و التي تجلت في هذه الرائعة التي نشرت لأول مرة في 1967 و عدت ثاني أكثر الأعمال الأدبية المنشورة باللغة الإسبانية إنتشاراً بعد "دون كيشوت" حيث ترجمت الى ما يقارب 27 لغة عربية منها ترجمتان الى اللغة العربية تصدي لها صالح علماني و د. محمد الحاج خليل. و يعرف أدب الواقعية السحرية بأنه نوع من الأدب تظهر فيه الأحداث السحرية الخيالية وسط أحداث واقعية تماماً بحيث يختلط الواقع بالإسطورة و تتلاشى الفواصل بينهما. 9
وفي هذه الرواية ظل ماركيز يحاول البحث عن أصل الأشياء حتى وجده في نهاية الرواية. لقد أعياه البحث عن الثروة والثورة والعشق، وفي آخر سطور الرواية وجد البطل الأخير للرواية (الذي ما هو إلا الكاتب نفسه ، الناجي الوحيد من سبعة عشر ابناً من سبعة عشر زوجة مختلفة للكابتن بوينديا و الذين توفوا جميعاً في يوم واحد) أن البحث عن أصل الأشياء مجرد مضيعة للوقت ولا فائدة منه. لقد انتهت الحياة بالنسبة له وبالنسبة لكل من يعرفه أو يهتم بأمره. 9
و أهم الأفكار التي قدمها ماركيز في رائعته هذه هي "الزمن" و دورانه المتكرر ف "الزمن لا يسير بل يدور حول نفسه في حلقة مفرغة و تاريخ تلك العائلة كآلة على عجلة لا يمكنها تجنب الدوران و التكرار. فهي عجلة يمكن لها أن تستمر في الدوران الى ما لا نهاية ، لولا التآكل المتزايد ، و الذي لا يمكن علاجه ، في محور العجلة". 9

هذه الرواية من الممكن أن تقرأ بتسلسل زمني متتابع في خط زمني مستقيم لا تحسه و لا تقدره سنينه فالوقت يمضي و يعود و تتغير سرعته أو حتى يقف لكن حياة تلك الأسرة تمضي. و تستطيع أن تستشعر دوران الزمن حين تتكرر الشخصيات خلال الأجيال السبعة لهذه الأسرة كما إنها تتطرق الى مسألة الخلود أيضاً من خلال روح ميلكياديس التي سكنت غرفة مكتبه. 9

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق